معالم على طريق الإصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم

(معالم على طريق الإصلاح 2)

دروس وعبر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم

يستفاد منها في التعامل مع قضايا الحوار الوطني الشامل

بقلم: د. حسب الله مهدي فضله

ملخص خطبة الجمعة ليوم الجمعة 22 محرم 1444هـ 19/8/2022:

أيها الإخوة المؤمنون

يقول الله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)،

في هذه الآية الكريمة يحدد الله تعالى لنا القدوة المثلى التي ينبغي أن يقتدي بها الإنسان المسلم والأمة المسلمة كلها في جميع مجالات الحياة، فليس هناك مجال من مجالات الحياة العامة أو الخاصة لا يجد فيه الإنسان معالم الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ليعالج من خلاله مختلف المشكلات الدنيوية والأخروية.

وإن من أهم الأحداث التي تعيشها بلادنا في هذه الأيام ويتابعها العالم أجمع انعقاد ما يسمى بمؤتمر الحوار الوطني الشامل، وهو من الأحداث الطارئة المعاصرة، فكيف يمكن للإنسان المسلم والأمة المسلمة أن تجد معالم القدوة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع مثل هذا الحدث الكبير؟

لو تتبعنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أن حياته عليه الصلاة والسلام منذ بعثته ونزول قول الله تعالى (يا ايها المدثر قم فأنذر) كانت تقوم على الحوار مع الكفار بأشكال وأساليب مختلفة.

لكن الحدث الأبرز في السيرة النبوية الذي يمكن أن نستخلص منه الدروس والعبر في هذا المجال المتعلق بموضوع الحوار والتفاوض والمصالحة، هو حدث صلح الحديبية الذي سماه الله تعالى (فتحا مبينا) وأنزل فيه قوله جل وعلا: ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا)،

وكما تعلمون أيها الإخوة المؤمنون، بدأت أحداث الحديبية بالبشرى التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنهم سيتوجهون من المدينة المنورة إلى مكة لأداء العمرة، ففرحوا واستعدوا لذلك، وخرج بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعددهم حوالي 1400 من الصحابة رضوان الله عليهم.

لكن عندما علم بهم كفار قريش الذين يسيطرون على مكة المكرمة في ذلك الوقت، أعلنوا رفضهم القاطع لدخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، رغم أن مختلف القبائل الوثنية تأتي وتحج إلى مكة لا يمنعونهم، ولكنهم قرروا منع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الوصول إلى بيت الله الحرام، وقالوا لا يمكن أن تسمع العرب في أنحاء الجزيرة العربية ويتحدثوا عنا بأن محمدا دخل علينا مكة عنوة بعد القتال الذي حصل بين الفريقين في السنوات الماضية.

وهنا تمركز النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في منطقة الحديبية القريبة من مكة، وأرسل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة ليخبر أهلها بأنه لم يأت مع أصحابه لقتال ، وإنما جاؤوا معتمرين لزيارة بيت الله الحرام.

ولكن كفار قريش رفضوا هذه المبادرة، وحبسوا سينا عثمان فترة من الوقت، وظهرت إشاعة بأنه قد قتل داخل مكة، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الجهاد ودعا أصحابه إلى البيعة على الموت والاستشهاد في سبيل الله، تلك البيعة التي عرفت في التاريخ الإسلامي ببيعة الرضوان، وأنزل الله تعالى فيها قوله: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).

هنا أحس كفار قريش بالخطر وبدأت الاتصالات، والمفاوضون يأتون الواحد تلو الآخر، يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويرجعون، إلى أن تُوِّجَت هذه الاتصالات بتوقيع أول اتفاقية سلام ومصالحة في تاريخ الأمة الإسلامية بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة، وهي التي عرفت بصلح الحديبية، وكان الذي تولى التفاوض نيابة عن كفار قريش هو سهيل بن عمرو الذي أسلم فيما بعد رضي الله عنه، وكتب الوثيقة سينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأملاه النبي صلى الله عليه وسلم بنود الاتفاق، وكان رئيس الوفد التفاوضي لكفار قريش يعترض إذا وردت عبارة لم تعجبه حتى اكتملت الوثيقة.

ولا يتسع المجال أيها الإخوة للحديث عن كل ما يتعلق بهذا الحدث التاريخي العظيم، لكن أتوقف لاستخلاص أبرز الدروس والعبر التي يمكن أن نستفيد منها الآن ونحن نعيش أحداثا تتعلق بموضوع الحوار والتفاوض والمصالحة بين أبناء هذا الوطن.

فمن خلال دراسة صلح الحديبية وما شهده من أحداث وما تضمنه من شروط، يتبين لنا أن القضايا التي طُرحت في ذلك الوقت، ويمكن إسقاطها على الأوضاع المعاصرة لأمتنا الإسلامية تنقسم إلى أربعة أنواع:

النوع الأول: قضايا مصيرية غير قابلة للتفاوض ويعتبر المساس بها خطا أحمر يمكن أن يستدعي الدعوة لبيعة الرضوان:

وهي تلك القضايا التي تتعلق بإثبات الوجود وهوية الأمة وثوابتها ومبادئها الأساسية التي لا يمكن القبول بالمساس بها، وهي التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في بداية بعثته أثناء المحاولات التفاوضية والإغراءات التي قدمها له المشركون حينها عن طريق عمه أبي طالب، فقال كلمته الخالدة: ( والله، لو وضعوا الشمس على يميني والقمر على يساري على أن أترك هذا الأمر، لن أتركه، حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

ويدخل في هذا النوع حرمة إراقة الدماء وقتل النفس التي حرم الله، ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان حينما أشيع الخبر عن قتل عثمان رضي الله عنه الذي كان لو حدث جريمة شنيعة لاسيما وأنه يقوم بمهمة دبلوماسية، وكل الأعراف الدبلوماسية والتعاليم الدينية تؤكد أن الرسل والسفراء لا يجوز قتلهم بأي حال من الأحوال.

وأعتقد أن موضوع رسمية اللغة العربية واحترام الديانات السماوية المعترف بها في البلاد يمكن أن يندرج ضمن هذا النوع من القضايا.

النوع الثاني: قضايا أساسية وضرورية تستدعي الحل العاجل والحاسم:

ويدخل في هذا النوع:

  • إيقاف الحرب وإقرار السلام، حيث تضمنت شروط صلح الحديبية: الاتفاق على الهدنة ووقف القتال بين المسلمين والمشركين لمدة عشر سنوات. أي بلغة عصرنا إعلان وقف إطلاق النار cessez le feu، فبدون وقف القتال لا يمكن الحديث عن مصالحة ولا سلام.
  • إقرار الحريات الأساسية وحرية الانتماءات السياسية وبناء التحالفات السياسية، حيث نصت اتفاقية صلح الحديبية على أن القبائل المختلفة في الجزيرة العربية لها حرية الانتماء: (من أراد أن يدخل في حلف محمد صلى الله عليه وسلم دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه)، فدخلت قبلة خزاعة في حلف مع النبي صلى الله عليه وسلم، بينما تحالفت بنو بكر مع كفار قريش، وهذا -كما هو واضح- تحالف ذو طابع سياسي بحت بخلاف الانتماء الديني والعقدي.
  • إقرار الحقوق والواجبات الأساسية لجميع الأطراف والترتيبات الإجرائية اللازمة لذلك:

ويدخ في هذا ما نصت عليه اتفاقية الصلح بأن يرجع المسلمون إلى المدينة المنورة دون دخول مكة، وأن يأتوا لقضاء عمرتهم في العام المقبل، وإذا جاؤوا يخرج مشركو مكة ويتركوا الحرم للمسلمين ليقيموا فيه مدة ثلاثة أيام، وأن لا يحمل المسلمون معهم من السلاح إلا سيوفهم العادية داخل أغمادها، وهي التي تسمى (سلاح المسافر).

النوع الثالث: قضايا أساسية مهمة، لكنها قابلة للتأجيل والمعالجة المرحلية:

وهذا النوع هو الذي تتجلى فيه حكمة المتحاورين وحنكتهم وسعة أفقهم ومدى نظرتهم المستقبلية البعيدة المدى، حسب طبيعة المرحلة والظروف المحيطة بها،

ويمكن التمثيل على هذا النوع بالبند الذي أثار قدرا كبيرا من الحزن والدهشة في أوساط الصحابة عند إقراره، حيث نصت الاتفاقية على
ان المسلم الذي يأتي من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن وليه يرده عليهم، ومن ارتد عن الإسلام وذهب إلى قريش من المسلمين لا ترده قريش إلى المسلمين.

فهذا الشرط يبدو من ظاهره أن فيه إجحافا كبيرا بالمسلمين وهزيمة لهم، حتى قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (علام نعطي الدنية في ديننا ونحن على الحق إن متنا أو حيينا؟!)، لكن بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم المغزى العميق والنتيجة المستقبلية والخطة الاستراتيجية الكامنة في هذا الشرط بأن من ارتد عن الإسلام وذهب إلى المشركين، فهذا أبعده الله وأخزاه وخلص المسلمين من شره، فماذا يفيد المسلمين إذا أعيد إليهم بالقوة؟ أما المسلم المستضعف الذي يفر من قريش ويرجعه المسلمون إلى أولياء أمره، فإن الله سيجعل له فرجا ومخرجا، طالما هو متمسك بعقيدته مطمئن قلبه بالإسلام.

وقد أثبتت الأيام صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث حدثت بعض الأحداث التي أجبرت كفار قريش على أن يأتوا بأنفسهم ويطالبوا بإلغاء هذا البند الذي عاد ضرره عليهم أكثر من نفعه.

وفي أيامنا هذه مع ظروف انعقاد مؤتمر الحار الوطني الشامل هناك كثير من القضايا الضرورية والمهمة لكنها قابلة للتأجيل لو تفطن لها الساسة والمؤتمرون حتى لا ينشغلوا بها كثيرا على حساب القضايا العاجلة والملحة التي لا تتحمل التأجيل.

النوع الرابع: قضايا قد تبدو في ظاهرها مهمة لكنها في الحقيقة ذات طابع شكلي لا تؤثر على جوهر الموضوع:

فهذه القضايا لا ينبغي أن تقف حجر عثرة أمام المتحاورين الذين يريدون التوصل إلى اتفاق سلام ومصالحة بين المتنازعين، وهذا النوع نجده في موقف النبي صلى الله عليه وسلم من اعتراض ممثل كفار قريش في صلح الحديبية على عبارة: بسم الله الرحمن الرحيم، حين أملاها النبي صلى الله عليه وسلم ليكتبها علي رضي الله عنه، فقال سهيل: ما نعرف (الرحمن)، اكتب ما نعرفه (باسمك اللهم)، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، لأن المضمون واحد واختلاف العبارات لا يؤثر.

ثم اعترض سهيل على كتابة (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم، فقال: لو كنا نعلم أنك رسول الله لما قاتلناك، اكتب ما نعرفه (محمد بن عبد الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله وإن جحدتم. وأمر عليا رضي الله عنه أن يمحو ما كتب، فأبى علي ذلك ولم تسمح له نفسه بمسح (رسول الله) فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الوثيقة ومسحها بنفسه، وأمر عليا بكتابة (محمد بن عبد الله).

فهذا نموذج يؤكد لنا أن هناك قضايا قد تشغل بال الناس ويستعظمونها ويعطونها حجما أكبر، ولكنها قد لا تؤثر في جوهر الموضوع.

فعلى هذا لو نظرنا إلى القضايا المطروحة في الحوار الحاصل الآن في مجتمعنا التشادي، لوجدنا كثيرا من الجدل والنقاش في موضوع شكل الدولة، وتحديد اللقب الذي ينبغي أن يخاطب به الحاكم الأعلى والمسؤول الأول في الدولة، لكن لو نظرنا إلى حقيقتها لوجدناها شكلية لا تختلف في المضمون كثيرا، سواء سمينا الحاكم والمسؤول الأول للدولة: رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو الملك أو الأمير أو الخليفة أو أمير المؤمنين، فكلها ألفاظ تدل على الشخص الذي يكون حاكما ومسوؤلا أول، والذي ينبغي التركيز على بيان صلاحياته، ما له من حقوق وواجبات، وما لنا تجاهه من حقوق وواجبات، وكثير من الدول المتقدمة نجد فيها هذه الألقاب التي قد تختلف نوعا ما في بعض جوانبها، ولكنها لم تؤثر على تقدم الدول ونهضتها ورقيها، حينما تم تحديد الحقوق والواجبات والصلاحيات لكل فرد فيها.

فهذه بعض الدروس والعبر التي نستخلصها من حادثة صلح الحديبية، ونوصي الإخوة المشاركين في المؤتمر أن يضعوها نصب أعينهم وأن يستفيدوا منها في حواراتهم ومناقشاتهم التي تتعلق بمستقبل هذه الأمة، ومعالجة قضاياها الراهنة والمستقبلة، وأن يعلموا أنها أمانة في أعناقهم، وأنهم مسؤولون أمام الله تعالى، بحسب مراتبهم وبحسب ما ولاهم الله عليه من مسؤوليات وواجبات، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *