في بداية نهار يوم 28 فبراير وتلبية لدعوة زفاف تلقيتها من الأخ الأستاذ حمزة إبراهيم آدم … قرأنا البسملة بصوت هامس مرددين الأدعية وأوراد السفر ، لنتجه جنوبا نحو مدينة سار التي يلقبها الجميع بالمدينة الخضراء، حيث السيارة تتمايل بنا يمينا يسارا بأهازبج من الفرح وأغاني الفنان مصطفى سيد أحمد، والفنان أحمد بيكوس ممزوجة بالعواطف والمشاعر الجياشة.
هكذا كنا نعبر القرى والمدن والغابات والجسور لنمر من جديد بمدينة مندو العاصمة الاقتصادية، وتتالت أمامنا المدن الشهيرة ( كومي ) ، ( بيبيجا) وهي مدينة كثيرة الفواكه رخصة الأثمان….. وكانت مدينة دوبا عاصمة ولاية لوغون الشرقية المحطة الموالية عروس المدن ذات الفلل الجميلة والمأهولة بالسكان وهي تشبه بحد كبير مدينة مندو كثيرة الماجو ، إلا أن مانجو مدينة دوبا أحلى وأطيب بالرغم من أنها قريبة من آبار النفط .
ففي هذه المدينة التقينا بالأخ الأستاذ آدم إدريس جرام الذي ينتظرنا منذ الصباح ، فاخذنا راحتنا ، وبدأنا نتجول لنعرف على المدينة فدخلنا الأسواق والمحلات التجارية المختلفة والمطاعم، مع دليلنا الأخ آدم إدريس جرام ، وأول ما لفت انتباهنا بهذه المدينة سكانها المختلفين من عمال ومهندسين حمر وبيض وسود وشقر ، وعندما سألنا عنهم قالوا لنا هؤلاء يعملون في آبار النفط التي تشتهر به المنطقة ….. وكنا قد وصلناها في منتصف النهار ، وبمجرد أن صلينا الظهر اتغدينا بغداء لذيذ مكون من اللحوم البيضاء وكبدة مشوية على الفحم ، وبعد ذلك سمحت لنا الفرصة بأن نزور الأخوة الزملاء الكرام بمحكمة دوبا الذين استقبلوا بوجه بشوش ، واخذنا نتجاذب الحديث، فكان اللقاء ، وكان الوداع ، عناق وفراق ….
واصلنا مسيرتنا مجددا مستمتعين بأغاني أبو السيد ، والفنان أحمد بيكوس عميد الاغنية الوطنية التشادية إلى أن وصلنا إلى مدينة ( كومرا ) حاضرة ولاية ماندول، وهي مدينة وجدناها مسيجة باشجار كثيفة في شوارعها لا تتسرب منها أشعة الشمس…. وعند خروجنا منها واجهتنا دورية عسكرية تابعة للجنة الوطنية المشتركة الخاصة بتفتيش ونزع السلاح من المدنيين ، فألقو لنا التحية ، وقالوا : ( عندنا Contrôle تفتيش ) ، ولكن سرعان ما رأو شعار العدالة فوق صدري تراجعوا ، وألقو التحية للمرة الثانية وهمس أحدهم لأخيه ( دول ناس جيستيس ) بالعامية التشادية أي هؤلاء قضاة لا يجوز تفتيشهم ، وقال اتفضلوا….
لم يكن الوصول إلى مدينة سار بالأمر السهل لأنها تبعد عن العاصمة أنجمينا بحوالي 700 كلم ، فواصنا طريقنا تاركين وراءنا الغابات والانهار ، ولكن لا بد مما ليس بد ، توقفنا عند مدخل مدينة (بيسادا) ، وهي مدينة تحكي لنا حكاية عن تاريخ لا ينسى ، هنا مسقط وقبر الرئيس الأول لدولتنا تشاد الحبيبة( أنقارتا تومبولباي ) وهو قبر مسيج بحواجز حديدية مشبكة بخطوط عريضة مكتوب عليها باللغة الفرنسية ( قبر الرئيس انقارتا تومبولباي مع تاريخ حكمه (1963م – 1975 ) .
وبعدها تواصلنا لنتجه أقصى جنوب البلاد إلى المدينة الخضراء المدينة التاريخية، وذلك ما كنا نسمعه عن هذه المدينة الزاهية، وعندما سألنا عن تأسيسها وتاريخها ، ذكر لنا هي مدينة تم تأسيسها في أغسطس سنة 1899م بواسطة النقيب (جيلين ) وهي كانت آنذاك قرية صغيرة تسمى ب ( كوقاكا ) يسكنها شعب (النيليم والسار ) الذين يتميزون بالصيد البحري ، وقد أسماها النقيب (جيليين) باسم احد الشباب المقاتلين الذي استشهد خلال الحملة الاستعمارية التي قادتها فرنسا آنذاك في منطقة ( أوبانقي شاري ) ؛ وكان اسم الشاب ( قوستاف آرشنبول) فسميت ( فور آرشنبول) وكلمة فور fort باللغة الفرنسية تعني (القوي ) .
وقد تم تغيير إسمها فيما بعد إيبان حكم الرئيس(تومبولباي ) إلى مدينة (سار) وذلك في يوم 29 يوليو سنة 1972م في الوقت الذي قام فيه الرئيس بحملات ضد الأسماء الاجنبية للمدن والشوارع الوطنية وتغييرها بأسماء وطنية محلية … وفي عام 1970 م أصبحت مدينة سار مركزا لتوزيع كافة المنتجات التي تأتي من الغرب إلى تشاد ، وذلك قبل اكتشاف طريق( قامديري_ مندو).
أما موقع مدينة سار المحروسة من كل بأس ، تقع في أقصى جنوب البلاد على ضفتي نهر شاري ( أطول نهر في تشاد ) وبحر كو ، في الحدود بين تشاد ، ودولة إفريقيا الوسطى ، وهي تبعد من العاصمة أنجمينا بأكثر من 700 كلم كما تقدمنا ، وتبعد بحوالي 150 من الشريط الحدودي الذي يفصل دولة تشاد بدولة افريقيا الوسطى بحوالي ، وهي تأتي في المرتبة الثالثة بعد العاصمة أنجمينا(المدينة الإدارية ) ، وبعد مدينة مندو ( العاصمة الاقتصادية ) ..
وقبل أن ندخلها واجهنا جسر طويل ، شديد الشبه بجسر واليا بالعاصمة أنجمبنا ، إلى أن وصلنا – خلوة مبروكة المعروفة بتعاليم مبادئ الدين الإسلامي وحفظ كلام الله سبحانه وتعالى.. فالداخل لهذه المدينة سيجد الطمأنينه، والابتسامة والبشاشة في وجوه أهلها، وعندما توسطناها واجهنا باب اعتلته كتابة عريضة باللغة الفرنسية ( musée nationale de SARH) اي المتحف الإقليمي لسار ، فاستأذنا من مسؤولي المتحف فدخلناه آمنين، وأخذت اتجول بداخله فرأيت في أحد جدرانه هيكل مستنسخ ضخم من نقش صخري مذهل يبلغ طوله لأكثر من مترين ، رأسه مغطى تمام ، قيل لي أنه رجل ( الكانانو) من تبيستي، ودخلت إلى حجرة ثانية فوجدت زي المحارب رابح فضل الله الذي استشهد عام 1990م على يد المستعمر الفرنسي، وهناك قائمة طويلة لملوك وسلاطين مملكة كانم برنو في القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر ، أما في الحجرة الثالثة رأيت مجموعة من الخلاخيل الحديدية والبرونزية، وبعض من العملات القديمة ، وعدد لا بأس به المصنوعات الخشبية والسلاسل الحديدية بالإضافة إلى بعض الأواني المصنوعة من القرع ذات الشكل المخروطي بالإضافة إلى الدروع الحربية والأقنعة، وألبسة الرقص ، وبعض الأدوات الموسيقية التقليدية، ومجموعة من الأحجار، والاسلحة المصنوعة من الحجارة والتي تنتمي إلى العصر القديم ، وأخيرا بعض من معدات التي استخدمها الساو وغير ذلك .
وبالرغم من الحرارة المفرطة التي واجهتنا إلا أننا استمتعنا بالعروض وإبداعات المرأة التشادية التي يقف لها شعر الرأس عن أسبوع عيد المرأة الذي يقام في هذه المدينة العريقة، وهي معارض تعكس منتجات محلية، وحرف يدوية مختلفة ، والملاحظ في هذا المعرض كل شيء بالمجان الأكل والشرب، والسبب هو أن المدينة تحتفل بعيد المرأة الذي انطلق قبل أيام…
فمدينة سار حاضرة ولاية شاري الأوسط هي مدينة لا تتنفس إلا بالجمال لأن الفرح منتشر في كل مكان ، في النبات والإنسان والحيوان ، وبالرغم من مرور محن عديدة على هذه الولاية، ك( سندانا ، وكوموقو وداناماجي ، ) إلا فإن الابتسامة لا تفارق وجوههم والأدب لا يغادر سلوكهم ، فمدينة سار هي مدينة التسامح والعيش المشترك …
لم يمنعني هذا الجمال من نسيان ما خرجت من اجله ، وهو دعوة أخي الأستاذ حمزة إبراهيم آدم لحفل زفافه ، فاتجهنا مسرعين نحو بيته وهو يقطن أطراف المدينة الخضراء على طريق مدينة ( كيابي ) ، في الحي الجديد ، وهمست لنفسي ماذا بقي أمامنا الآن… فاقتربنا إلى أن وصلنا فإذا بشباب مظلين تحت أشجار المانجو الخضراء اغلبهم من الأساتذة والمدرسين ، فتم استقبالنا بحفاوة لم تقابلني في حياتي ، إذ اتضح لنا مؤخرا بأن تلك من عادات وتقاليد أهل المدينة…
وفي العشاء احضروا لنا ألذ وأطيب أنواع الأرز المطبوخ بالتوابل والخضار ممزوج باللحم المحمر ، فاكلنا بشراهة كما لو أننا لم نأكل منذ أسابيع، وبعد العشاء شربنا الشاي مع جشاءة خفيفة … وبعد ذلك أخذنا الحمام ولبسنا أجمل ما عندنا ، وتطيبنا بالعطور الذكية … لنتجه إلى ساحة الحفل ..أما العريس فمتوتر لا يريد شيء سوى أن يستلم عروسته ….
وصلنا إلى موقع الحدث والساحة امتلأت كبارا صغارا ، رجالا ونساء ، فابتدات الحفلة بعزف أغنية (حنانو حنانو ) فقامت ممثلة أم العريس والوفد المرافق لها بالرسم بحنة خضراء معطرة على أيدي العريس ووزراءه ….. هكذا استمر الكل يرقص على أنغام الموسيقى وكلمات اخرى لم اعرفها إلا كلمة (أبشر ، أبشر ، أبشر ) إلى حين مجيء العروسة .. لتستمر الحفرة .. ….
أما أنا فلم أنام حيث أصبحت أتأمل في جمال وروعة وبساطة الحياة في هذه المدينة…
وفي الصباح الباكر ، وبعد أن إحتسينا الشاي خرجنا انا والعريس وباقي زملائه لنتجه إلى بيت أم العروسة لنسلم عليها ، ولأن العادات والتقاليد التشادية تجبرنا على ذلك ، فألقينا التحية عليها ، ونحن جلوسا مطأطئي الرأس ، لنقدم لها كلمة الشكر والعرفان ،( ألف مبروك وبيت مال وعيال ، الله يثبت البت ، زرية صالحة ) ، وأخذنا الدعاء ، لنرجع مرة أخرى إلى موقع الحدث لاستقبال الضيوف ، ووليمة غداء العريس ….
وفي اليوم الثالث قد سجلنا زيارة خفيفة للأهل بحي ( بندا ) ، وبعد ذلك زرنا المؤسسات التعليمية بالمدينة والشركات الكبيرة كشركة قطن تشاد ، شركة سكر تشاد ، شركة النسيج والاقمشة ، وقصر رئيس الجمهورية، وأخيرا قصر العدالة بمدينة سار ، وفيه قاعة جلسات الحكم ، ومكاتب القضاة، وأخيرا مكتب القاضي إبراهيم محمد أحمد، وكيل النيابة لدى المحكمة وكان مكتبه يعج بشكاوى المظلومين …
ومن محاسن الصدف بهذه المدينة ، تمازج روائح الفواكه كالماجو والليمون بمختلف انواعهما ، والجوافة ، والرمان والباباي …وغيره ..
وفي اليوم الأخير وقبل أن نشد الرحال هناك آخر طقس لديهم وهو ما يسمونه ( سبعات) أو( شق اللداي) ، وفي المساء وقبل غروب الشمس إرتداء العروسان لباس متناسق اللون وخرجا لنا يمشيان ببطء يميلان يمينا يسارا ، يحمل العروس سيفا ابيض اللون بيده اليمنى ، بينما العروسة بوجه مغطى بغطاء أبيض إلى أن وصلوا إلى كرسيهما، وبدأت الحفلة ، وقامت أم العريس والوفد المرافق لها بوضع بعض من النقود الورقية لترفع غطاء العروسة كطقوس تقليدية ، وبعدها تركوا الساحة للعروسين فرقصى على أنغام الموسيقى لوحدهما ، وانتهت الحفلة بفرحة عارمة ممزوجة بزغاريد شعبية .
هكذا لم يبقى أمامنا إلا أن نشد الرحال ، بعد أيام عشناها على الفرح والسرور والخواطر الجميلة ، وامتد أمامنا طريق العودة …وأنا احلم بالعاصمة أنجمبنا ..
القاضي آدم إبراهيم آدم