مؤشرات النزاعات المجتمعية وعواقب استمرارها على التعايش السلمي في تشاد، وسبل الوقاية منها


ورقة عمل مقدمة ضمن أعمال الطاولة المستديرة حول:
تقنيات منع الصراع ودور المجتمع المدني
في تعزيز القيم الديمقراطية خلال الفترة الانتقالية لتشاد
التي ينظمها مركز الدراسات من أجل التنمية والوقاية من التطرف
إعداد: الدكتور/ حسب الله مهدي فضله

أولا: مدخل إلى تعريف النزاعات والحروب الأهلية:
الحرب الأهلية هي شرخ في التماسك والتضامن الاجتماعي أو تبديد للسِّلْم الاجتماعي؛ حتى يصبح الجميع أعداءً، فيفقد الإنسان زمام ذاته ويصبح معها في حالة غير طبيعية ولا يدري ما يفعله؛ وينخرط في عنف جماعي أعمى، فالحرب الأهلية هي حالة من الهرج والمرج والعنف بين مكونات المجتمع الواحد.
من أجل فهم البيئة السيكولوجية التى تحتضن النزاعات الأهلية والتوترات الاجتماعية وتحفزها، يشرح لنا الفليسوف التونسي/ حسن بن حسن، الظروف النفسية التي تسيطر على المجتمع المُهدد بالحرب الأهلية، فيقول: “في حالات النزاع الاجتماعي الحاد بين مكونات المجتمع الواحد سواء كان النزاع ذا خلفية طائفية مثل النزاع بين السنة والشيعة أو ذا طبيعة سياسية صراعية، يصبح كل مكون اجتماعي في نظر الآخر المخالف له هو الشيطان الرجيم، ليس فيه ذرة من خير وبقية من إنسانية، ويجب التخلص منه لأنه أصبح شراً مُطلقاً، إلى درجة أن من أراد البقاء على الحياد في تلك الأوضاع يعتبر خائناً في نظر مكونه، وينتج عن هذه الحالة من العداء أن ينغلق كل مكون على نفسه فلا يقبل التوجيه والنقد إلا من داخله فقط، ويُصاب بحالة تُسمّى (انغلاق الذات)، ويبدأ كل طرف متورط في الصراع في نسج قصصه الخاصة به عن طبيعة الصراع، ويصبح لكل مكون مصادره الخاصة فى الأخبار والتصورات، ويسود بين الجميع منطق الثأر والانتقام وتنتشر في المجتمع حالة من الخوف والقلق على الحاضر والمستقبل”.

وبهذا يمكن التفريق بين الحرب الأهلية التي تجري بين مكونات المجتمع الواحد والتي تتصارع فيها تلك المكونات لأسباب مختلفة، والحرب النظامية التي تجري بين دولتين لكل منهما سيادتها المستقلة ونظامها الشرعي. أو بين دولة ذات نظام قائم يستند إلى شرعية قانونية ودستورية معترف بها، مع مجموعة أخرى لا تتمتع بتلك الشرعية وتعتبر بذلك خارجة عن نطاق القانون.

ثانيا: أهم مؤشرات النزاعات المجتمعية وأسبابها:
تعتبر المؤشرات التي استحدثتها العديد من المنظمات والهيئات الدولية وسيلة هامة لقياس السياسات العمومية المتبعة في الدول،
وبصفة عامة تصنف المؤشرات إلى فئات، من أهمها:
أ) المؤشرات الاجتماعية : وتتمثل في النقاط الآتية:
تصاعد الضغوط الديمغرافية المتمثلة في تزايد السكان في الأماكن التي تحدث فيها هذه النزاعات، سواء عن طريق التكاثر الطبيعي، أو نتيجة لعمليات النزوح بين المناطق، لاسيما من الريف إلى المدن الكبرى.
الحركة السلبية والعشوائية للاجئين من مناطق النزاعات في الدول المجاورة، وانعكاساتها على المجتمع التشادي، نظرا للتداخل القبلي الوثيق بين المكونات الاجتماعية في هذه الدول مع تشاد.
الميراث العدائي الشديد المرتبط بأحداث تاريخية قديمة لا زالت بعض رواسبها متبقية في الذاكرة الجماعية لبعض المكونات الاجتماعية، مما يجعل بعض الجماعات تنظر إلى نفسها على أنها مظلومة تنتظر الثأر.
غياب القدوات، نتيجة الفجوة التي بدأت في الاتساع بين الجيل السابق المتماسك المترابط والجيل الجديد المتأثر بالرسائل السالبة والضغوطات الاقتصادية والاجتماعية وغياب العدالة الاجتماعية ونحو ذلك من العوامل التي باتت تؤثر على التماسك الاجتماعي وتؤدي إلى نوع من الاحتقان والغليان الداخلي الذي يتم تفريغه من خلال قنوات الصراعات المجتمعية.
انتشار أدوات التواصل الاجتماعي والاستغلال السيء لها، في ظل انتشار الجهل وقلة الوعي، من جهة، والمخططات الخبيثة الهادفة إلى تعميق السلبيات وتقليل الإيجابيات، تنفيذا لأجندات خاصة لبعض الجهات المحلية أو الأجنبية.
ب) المؤشرات الاقتصادية: وتتمثل في النقاط الآتية:
غياب التنمية الاقتصادية وارتفاع مستويات الفقر لدى الجماعات المتباينة.
ارتفاع نسبة البطالة، وغياب فرص الحصول على التعليم والوظائف، أو الشعور بعدم العدالة فيها، مما يجعل كثيرا من الأفراد يلجؤون إلى إثارة النزعات الإثنية وتعزيزها كوسيلة من وسائل الضغط، لتصحيح هذا الوضع
اختلال الميزان التجاري بتركز العملية التجارية على مجالات محدودة، وغياب فرص الاستثمار، وهيمنة بعض المكونات على الحركة الاقتصادية واحتكار بعض الميادين التجارية فيها، مما يخلق نوعا من النقمة والغضب في نفوس بعض المكونات الاجتماعية.
ج) المؤشرات السياسية: وتتمثل في النقاط الآتية:
انتشار ظاهرة الفساد الإداري لدى المسؤولين السياسيين في مختلف المستويات، الأمر الذي يدفع إلى سعي بعضهم إلى الاستقواء بمكوناتهم الاجتماعية للحماية والتخلص من العقاب والمساءلة القانونية من جهة، وكذلك تأجيج نيران الفتنة والنزاعات بين الفئات الاجتماعية للاستفادة من ذلك في الحصول على عوائد مالية يجنيها بعض المسؤولين من وراء التحركات المزعومة التي يقومون بها لاحتواء الأزمة، أو جمع الأموال من الأطراف المتنازعة كنوع من الرشوة لنصرة فريق على فريق آخر، وفي الوقت نفسه تستفيد هذه النخب الفاسدة من التسويق والترويج لنفسها على أنها من دعاة السلام وحل المشاكل ومعالجة الأزمات ونحو ذلك.
ضعف الثقة بين القاعدة الشعبية والقيادات السياسية عامة ومؤسسات الدولة بصفة خاصة، نتيجة ممارسات بعض المسؤولين، وانتشار المحسوبية وغياب الشفافية والمحاسبة، الأمر الذي يؤدي إلى تحول التنظيمات السياسية إلى تكتلات قبلية يستعين فيها كل سياسي بأفراد قبيلته لضمان الولاء وتوفير الأمن والحماية، فينعكس ذلك سلبا على التماسك الاجتماعي والتعايش السلمي بين مختلف الفئات الاجتماعية.
التدخلات الخارجية الأجنبية التي تستفيد من حدوث النزاعات المجتمعية والصراعات البينية، فتسعى لتحريك بعض العناصر الموالية لها، من أجل تضخيم العوامل السلبية وإبرازها في الواجهة، حتى ينشغل المجتمع بهذه السلبيات ويتناسى واجباته الكبرى المتمثلة في بناء الوطن والتعاون في حمايته واستغلال خيراته بصورة سليمة يستفيد منها الجميع دون استثناء.
ظهور بعض عناصر مؤشّر الدول الهشة في حالة الدولة التشادية، وهو مؤشر أطلقه “صندوق السلام” منذ 10 سنوات، ويستخدم في قياس فعالية الدولة في استخدام نفوذها. ويعودُ مصطلح الدولة الهشة أو الرخوة إلى عالِم الاقتصاد السويدي جونار ميردل  Gunnar Myrdal الذي قصد به الدولَ التي يُسيطر عليها تحالف سياسي اقتصادي بهدف تطويع قطاعات المجتمع، واحتكار السلطة السياسية والثروة، مما يؤدي إلى إضعاف قدرة الدولة على أداء وظائفها الأساسية وتلبية الاحتياجات الرئيسية لمواطنيها، فضلا عن تصاعد الاختراق الخارجي، والاعتماد على المساعدات الأجنبية .
ثالثا: أهم الحلول وآليات الوقاية من الصراعات المجتمعية:
المنع الوقائي للصراع هو وضع يكون فيه الجميع فائزا، وهو ينظر اليه كتقنية دفاعية أو وقائية في حالة توافر المناخ الملائم لقيام حرب أهلية، وعليه يمكن تعريف الآليات الوقائية بأنها “العمل الرامي إلى منع نشوب منازعات بين الأطراف، ومنع تصعيد المنازعات وتحويلها إلى صراعات، ووقف انتشار هذه الصراعات عند نشوبها”.

من أهم الحلول والآليات الوقائية ما يلي:
الآليات السياسية والإدارية: يقصد بالآليات السياسية تلك الآليات التي تسعى لغلق القنوات التي تقود للحرب الأهلية أو لفتح القنوات التي تعزز من الحوار والتفاعل وتبعد الدولة عن مسارات العنف والحرب الأهلية. وهي تعمل على تخفيف صور الاحتقان والتأزم السياسي والاجتماعي عبر تفعيل وصول المطالب بأنواعها ( أفقية أم عمودية)، ثم السعي لاجتثاث كل مقومات وقوانين الحرب الأهلية.
بناء منظومة قيمية أخلاقية للمجتمع والدولة تقوم على التعددية واحترام مختلف المكونات المجتمعية من جميع الإثنيات والثقافات والأديان، ومشاركة مجتمعية في صنع القرار السياسي على أساس من المساواة والعدل واحترام كرامة الانسان وسيادة الدولة.
المحاكمات العادلة والنافذة لمرتكبي الجرائم، أيا كان انتماؤهم الإثني أو موقعهم السياسي حتى يشعر الجميع بسيادة دولة القانون ومساواة المواطنين.
وضع آلية قانونية متوازنة لتعويض الضحايا، ترعاها الدولة، بناء على مبدأ المسؤولية الفردية، والتقليل من الاعتماد على الانتماءات القبلية في معالجة قضية تعويض الضحايا، أو حماية المجرمين.
وضع إطار قانوني واجتماعي عام لتطبيق مبدأ العفو والمصالحة بين أفراد المجتمع، بالاستفادة من النماذج التي طبقتها بعض الدول الأخرى، خاصة التجربة الرواندية التي تكاد تكون الأقرب إلى الحالة التشادية.
تحقيق التنمية والتعاون بين مختلف فئات المجتمع: وتشمل التنمية الاقتصادية التي تضمن القضاء على الفقر والبطالة وعدالة توزيع الثروة بالإضافة الى تحقيق التعاون الإقليمي والدولي في مجال التنمية، بما يحققه من مساعدات اقتصادية وتنموية وتبادل تجاري وتشجيع الاستثمار المشترك والتفاهم على إدارة الموارد المشتركة، كما تشكل داعماً أساسيا للحياة الديمقراطية وتخلق بيئة محاربة أو محاصرة لجذور الصراع.
إشراك منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والفئات الواعية من الشباب في عملية صنع القرار.
العمل على تعزيز استقلالية النظام القضائي، للتعامل مع القضايا المرتبطة بالصراعات المجتمعية، وسن القوانين الرادعة لكل المحرضين على العنف الاجتماعي ونشر خطاب الكراهية في المجتمع.
الاستفادة من نظرية درء الرداءة وتطبيقاتها لمعالجة مختلف المشاكل الاجتماعية والإدارية والوطنية، من خلال ركنيها الأساسيين: (الإرادة – الإدارة) والتصدي للعقبات المعيقة لهما.
مواصلة جهود التوعية والزيارات الميدانية لأماكن الصراع أو التي يحتمل حدوث الصراع فيها، من قبل كل الجهات الفاعلة في المجتمع، سواء من منظمات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية ورجل الدين والمسؤولين التقليديين، مع مراعاة أن يركز كل فرد من المشاركين على توعية قبيلته ومكونه الاجتماعي من أجل أن يكون له التأثير الأكبر قبل توجيه النصح للآخرين.
هذا وبالله التوفيق.
د. حسب الله مهدي فضله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *