هوية الحرف

مما_أعجبني
هوية الحرف
النص الأدبي هو مرآة تعكس هوية الأديب، فمهما تخفّى خلف الكلمات، تبرز ملامح ذاته بين السطور، وتفصح الألفاظ التي ينتقيها عن موضع نبتها وبيئتها الاجتماعية والثقافية. إن الأديب، عبر نصه، يقدم تجربة تكشف عن قيمه وخبراته ومواقفه، كاشفا عما يجول في وجدانه وما يعتمل في عقله، ليكون النص سجلا حيّا لهويته وشخصيته، فالأمير، مثلا، إذا أمسك بقلمه، انساب مداده على الورق ناثرا صورا بديعة عن نسائم الحدائق ورقصات الغصون، وتمايل الأشجار مع ألحان الحياة المترفة، وأصوات الطيور وهي تغرد في أفق باسم بالسكينة والجمال. أما الخدم، فإن عبروا، امتلأت ألفاظهم بما يعكس حياة الكد والعمل، وحملت كلماتهم لغة الرجاء والمناجاة، مشحونة بألفاظ العطاء والهبات والكرم. وأما الأصيل من أبناء القبائل، فإن ألفاظه تفيض بالفخر والعظمة، مترنحا بين مناقب قبيلته ومآثر أسلافه.
فبين ابن كلثوم وعنترة مثلا: هويتان تتجليان في الشعر، لعل من أروع الشواهد على تبيان هوية الحرف ما نجده عند عمرو بن كلثوم، الشاعر الجاهلي الذي نبتت جذوره في أعماق قبيلة تغلب، فهو ابن الكريمين، كلثوم بن مالك، وامه ليلى بنت المهلهل، حفيدة المجد التليد. لذا شعت أشعاره بألفاظ مُفعمة بشموخ القبيلة واعتدادها، (ونشرب إن وردنا الماء صفوا،،ويشرب غيرنا كدرا وطينا)
(إذا بلغ الفطام لنا رضيعا،،،تخر له الجبابرة ساجدينا) تظهر الأنا المغضوبة الجظة، والذات الضالة الجعظة.
في المقابل، يظهر عنترة بن شداد بشخصيته الفريدة التي تمحورت حول ذاته وبطولاته، فلم يعبر عن مجد قبيلته عبس بقدر ما عبر عن ذاته وحبه لعبلة، وجاءت ألفاظه مشحونة بنَفَس البطولة، (هلا سألتِ الخيل يا ابنة مالك
إن كنتِ جاهلة بما لم تعلمِ)، (ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهل،،،مني وبيض الهند تقطر من دمي).
وهكذا يتجلى الفارق بين شاعر يغني لمجد قبيلته، وآخر يغني لقلبه ويثبت ذاته. وأبو نواس وصراع الهوية حيث نجده غارقا في فلسفة مختلفة تماماً، تكشف عن عقلية متحررة وصراع داخلي بين الدين واللذة، نلمس في نصوصه تمردا على العادات والتقاليد، واحتفاء بالخمر والجسد، وكأنه يحيا في عالم مواز، بعيدا عن نسيج القبيلة والمجتمع، (دع عنك لومي فإن اللوم إغراء،،،وداوني بالتي كانت هي الداءُ).
إن ألفاظ أبي نواس تترجم حالة الترف والتمرد معا، لتبرز أديبا مغتربا في فكره، قريبا من نزواته. فالأدب مرآة الحياة ومن خلال النص، يتضح أن الألفاظ ليست مجرد أدوات للتعبير، بل هي نافذة نطل منها على حياة الأديب ومجتمعه. فالنعيم يولد لغة الغزل والفخر، بينما تكشف قسوة العيش عن لغة المدح والرجاء. وهنا نستحضر قول الحكيم: (كل إناء بما فيه ينضح)، فالنص يكشف هوية قائله وتجارب حياته بجلاء.
وصدق من قال: (الكلام بيان لما في الجنان)، فالكلمات تحمل بصمات بيئاتها، وتظهر لنا أزمنة النص وأمكنته، وتسهم في نسبتها. فالحروف ليس مجرد إضاءات تكشف عن الدلالات، بل هو شهادة حية تنبض بهوية نصها وسيرة أديبها، ويروي قصة تكمن وراء النص.

بقلم: البروفيسور/ أحمد أبو الفتح عثمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *