مما_أعجبني
البيئة والإبداع الأدبي
إنّ البيئة ليست مجرد إطار جغرافي أو اجتماعي يعيش فيه المبدع، بل هي رحم ينمو فيه النص يشكّل ملامحه الأولى ويعزز عناصره الجمالية، والبيئة القوية تنتج أدبا قويا؛ لأنها تغذي الذائقة، وتلهب خيال المبدع لتخرج من بين ثنايا نصوصه قضايا عميقة وأبعادا فنية آسرة.
والنص الأدبي هو مرآة تعكس ملامح البيئة التي أنشأته، فكلما ازداد وعي الحاضنة الأدبية وانفتحت ذائقتها، نَمَت الملكات الإبداعية للمبدع، والبيئة هي المحفز الأول، والذائقة المتفاعلة هي وقود هذا الإبداع؛ حيث تمدّه بالقوة وتُحلق به في ساحات رحبة وفضاءات أرحب. ومتى ضعُفت البيئة، ضعفت النصوص؛ لأن المبدع لا يستطيع أن يحلق بأجنحة مبتورة في سماء جافة من الإحساس، والنص الأدبي أشبه ما يكون بمرآة لروح الأديب وبيئته، فلا يمكن للنص أن ينفصل عن واقعه، وإلا أصبح كائنا غريبا فاقدا لجوهره. فالمبدع يختار تشكيلاته الجمالية من معين بيئته، سواء أكانت بيئة غنية بالصور الفنية الباذخة، أم فقيرة تفتقر إلى وهج الإبداع، والبيئة القوية تصقل الذائقة وتثري النصوص، بينما البيئة الضعيفة قد تكبل جناحي الإبداع وتفقد النصوص وهجها وأريجها ورونقها،
ومع ذلك، فإن المبدعين لا يُخلقون متساوين في أدواتهم أو مستوياتهم الفنية. فكل أديب يحمل بصمته الخاصة، ونصه يشبهه كما يشبه ولده. ومن خلال أسلوبه، ينسج الأديب خيوطا تنساب كالنغمات، تُدهش المتلقي، وتجعله يتساءل: ما الذي يجعل هذا النص يتوهّج؟. إنها الانزياحات الجمالية التي تختبئ في أعماق النصوص، حيث تبرز النغمة الآسرة التي تسرق المتلقي إلى عوالم ميتافيزيقية، تقرأ فيها أعمق مما يظهر على السطح، ولا يكتمل النص الأدبي إلا حين يشبه قائله، فيحمل ملامحه وعمقه وتجربته، ويعلن هويته من غير ادعاء أو زيف. وإذا حدث العكس، وأتى النص مسلوخا من جلد أديبه، فإنه يصبح غريبا كالغرباء، فاقدا للروح والجمال، والإبداع الحقيقي هو نتيجة تفاعل ديناميكي بين بيئة ثرية وأديب يحمل حسا فنيا مرهفا، ووكلما ازداد هذا التفاعل تألقت النصوص، وبقيت شاهدة على قدرة المبدع وبيئته على التزاوج المثمر الذي يُنتج أدبا خالدا يليق بالذاكرة الإنسانية.
أ.د. أحمد أبوالفتح عثمان