عانت مدرسنا الابتدائية في الولايات والمحليات وفي ضواحي المدينة من إهمال مُريب، ونقص من المعلمين، ومن مقاعد الجلوس، تصدعت الجدران وآل أسوارها بالسقوط، لم تتوفر أدنى بيئة مدرسية، لا تُعرف بأنها مدرسة إلا من اللافتة على الباب.
أبناء الأثرياء يسخرون من تواضع هذه المدرسة فأطلقوا عليها اسم (زربية الغنم)، كناية الي هؤلاء التلاميذ سيكونوا ضحايا المستقبل، لم يكن هنالك دفاتر لتسجيل الغياب، بعض التلاميذ يتسربون أكثر من شهر بحجج التسيب، أو العمل، أو المرض، ولا أحد يسأل من هؤلاء التلاميذ عن أسباب الغياب بعد عودتهم.
أحياناً نشعر أن هؤلاء المعلمين مجبورون على التدريس، لم يهتموا علي الإطلاق بمدى استيعاب وتطوير، أصبحوا هؤلاء التلاميذ مجموعات متفرقة غير متجانسة…
يصنعون الضجيج والفوضى!..
مدارس غارقة في الضياع!..
لم يطرق الأمل ببابها…
في بداية العام الدراسي حل مدير جديد نحيف فارع القوام ذو شعر كثيف، وشارب كث كقبطان السفن، جمعت كل المدرسة من معلمين وتلاميذ وعاملين، تحدثت عن الواقع المرير الكئيب، وإمكانية الحلول بالإرادة القوية، هنا نعمل من أجل تغيير أوجهنا القبيحة لهذة المدرسة!
فقلت لهم: علينا ألا ننتظر الحكومة فهي لن تأتي إلينا لتصنع لنا عالماً وردياً، وإذا ذهبنا إليها لن نجد غير الوعود الكاذبة.
لذلك أيها المعلمين والتلاميذ الحل في أيدينا، إيد فوق إيد تجدع بعيد، ثم عرجت إلى الصحة المدرسية وأهميتها في الحياة، وأوجبت الجميع الالتزام بنظافة المدرسة عامة، وسوس جميع التلاميذ بصوت منخفض: لا ندري!
ماذا فعل بنا هذا الرسول؟
تعبت قلوب هؤلاء المعلمين والتلاميذ بالحماس فانهالت الأيادي بالتصفيق الحار، كأنه سحر تملكتهم، نفضت عنهم غبار اليأس ناظر لهم بأمل إلى غداً مشرق.
أول ما قمنا به مع هؤلاء التلاميذ، قمنا بنظافة المدرسة، حتى التلاميذ الكسالى قد سرى في دمهم الحيوية والنشاط، ثم قمنا بتأهيل المدرسة وترميمها بالتعاون، كنت دائماً أقول لهم: إن التفكير الجماعي يبسط الحلول، ويسهل عثر الطريق، أبعدوا عن أرواحكم الأنانية، فالاتحاد قوة غارقة.
هؤلاء التلاميذ قاموا ببناء سوراً للمدرسة، بسواعدهم الخضراء، حينها كنت المشرف والمشارك الأساسي في العمل، بأبسط الإمكانيات المتاحة صارت المدرسة جميلة ونظيفة وجاذبة مثل بقية المدارس، من غرفة الإنعاش دبت فيها العافية، أصبح جميع هؤلاء التلاميذ فخورون بالمدرسة، ولا يحبون من مفارقة المدرسة إلا للضرورة القصوى، وهم لها بشغف أثناء الإجازة.
كنت معلم فنان بارع نجيد العزف والغناء والشعر، لذلك كنت مهتم بالفنون والرياضة، مما وجدو كل هؤلاء التلاميذ إبداعتهم في شتي المجالات، شاركوا هؤلاء التلاميذ في مسابقات مدرسية متعددة، تفاجأ المشرفين بحصول هؤلاء التلاميذ على المركز الأول في المسرح عن جدارة واستحقاق، ثم توجهنا بكأس منشط كرة القدم، ولم يغيبوا هؤلاء التلاميذ عن بقية المشاركات عن منصات التتويج!..
زحفوا هؤلاء الطلاب أكاديمياً بقوة إلى المراكز المتقدمة، وأدرجت اسم المدرسة بلوحة الشرف، وهذا الفضل يعود للمعلم الطائر المهاجر فجرت طاقات هؤلاء التلاميذ نحو الإبداع والابتكار، كنت إنسان بشوش هادئ الطبع متواضع متفائل، قبل أي درس نعطيهم الثقة، لكن لا نسامح أبداً في الكذب والنفاق.
ذات يوم من الأيام في الطابور الصباحي بعد البرنامج الثقافي فأجعت هؤلاء التلاميذ بنبأ لم يكن في الحسبان!..
يا إله العالمين!..
مُعلن عن الرحيل!..
خبر صادم وموجع..
إنها غصة في الحلوق!
هدرت دموع التلاميذ من العيون!..
قريباً سنرحل عن المدرسة!
لانوا تم توقيفي بسبب السياسة والساسة!..
حاول التلاميذ مراراً وتكراراً أن يتقبلوا الأمر!
لكن صعب علي التلاميذ تخيله…
وكيف يصبح حال المدرسة من دوني!
إجتمع جميع هؤلاء التلاميذ برغبتهم على أن يقام لي حفل وداع بهيج، كان بالنسبة لي ولتلاميذي أعظم يوم حزين في حياتي وحياة التلاميذ، حضر على خشبة المسرح كل من المعلمين وأولياء الأمور، تم تكريمي على أحسن ما استطاعوا، رقرقت المآقي بالدموع، ثم أصبحت كطائر مهاجر في داخل الوطن، لكن هناك تركت خلفي ذكرى معطونة بالأسى ومرارة الرحيل.
بعد رحيلي جاء المعلم هشام، مربوع القامة صاحب لحية كثيفة، أصلع الرأس حاد النظر، يرتدي دائماً بنطلون قصيراً يكشف عن جزء من ساقيه المنفرجتين، تحولت المدرسة في عهده بالقيود الصارمة شبيه بثكنات العسكر، من شدة خوف هؤلاء التلاميذ يتخيل كل منهم كأنهم يمشون على حبل.
كرس المعلم هشام جل اهتماماته في الجانب الأكاديمي، يؤمن بالجلد كأسلوب للإقناع، مات المسرح الذي كان المرآة التي ينظر فيها هؤلاء التلاميذ أحلامهم، توقف العزف والاناشيد والغناء، كان المعلم هشام رأيه صريح و واضح بحرمة المعازف، يقول إنها من أفعال إبليس، والرياضة بالنسبة له مجرد لهوٍ لا يسمن ولا يغني من جوع.
هبت رياح الجفاف حصد هؤلاء التلاميذ نتائج كارثية في كل المسابقات، تدنى مستوى النجاح بشدة، لم يجدوا معلماً يرفع لهم آرواحهم المعنوية، بل من شدة الإحباط تعلم التلاميذ دروب التسرب وادعاء المرض خوفاً من العقاب، انعدمت الرغبة بالمجئ إلى المدرسة، فمنهم من تركها وآخرين حولوا إلى مدارس أخرى.
في أحد أيام الصيف الساخنة بعد وجبة الفطور كانت الأجساد الهزيلة تنزع عرقاً والنعاس يقاوم أجساد هؤلاء التلاميذ بسبب تناول الفول، تملكهم الخمول، وفقدت العقول تركيزها فشردت بعيداً عن أجواء الحصة، فجأة انتبه الجميع لصراخ امرأة تصرخ بأعلى صوتها ثم تبكي بحرقة بالقرب من مكتب المعلمين، مما دفع التلاميذ الفضول إلي النظر بالشبابيك، إنها فراشة المدرسة تكتح بالتراب فوق رأسها، وثوبها مجرور على الأرض والمعلمين يدعون له بالحرية.
فوراً علم هؤلاء التلاميذ بأن معلمهم السابق الطائر المهاجر، قد تم اعتقاله من قبل النظام تدفقوا هؤلاء الطلاب كالطوفان خارج الفصول، كسروا كل القيود، أغلقت المدرسة أبوابها تضامناً على معلمهم الجليل الطائر المهاجر، حزن هؤلاء التلاميذ حزناً كثيراً، ثلاثة أيام هم باحثين عن الطائر المهاجر في كل السجون، لكن لم يجدوا عنه أثر، إعتقل الطائر المهاجر بسبب الثورة والنضال من أجل وطن يسع الجميع تاركاً بصمة في كل المدارس التي عمل بها، لذلك كل هؤلاء التلاميذ كانوا حضوراً علي مستوي السجون والزنازيين، حتي صار إيقاع المدرسة حزيناً.
بعدما تم اطلاق سراح الطائر المهاجر، بالرغم من التهديدات بالقتل والمتابعات والملاحقات، قرر الطائر المهاجر الهروب من والوطن، وأصبح الطائر المهاجر متجول من وطن الي وطن آخر، صارت كل الأوطان مثل الوطن مطادرت وتهديدات، أصبح كطائر مهاجر الي يومنا هذا.
لكن لم يمكث المعلم هشام معهم كثيراً في إدارة المدرسة، تفاجئ جميع هؤلاء التلاميذ بغياب المعلم هشام، سأل هؤلاء التلاميذ عنه عندما طال الغياب، فقيل لهم أنه ذهب إلى الجهاد في سبيل الله، لم يودع هؤلاء الطلاب، لقد بنى النسيانُ بينهم سوراً عتيقاً.
بعد المعلم هشام أُرسلت إلي هؤلاء التلاميذ معلمة شابة، وقد كان من الغريب إرسال معلمة إلى مدرسة الأولاد!..
كيف لها أن تسيطر على هؤلاء التلاميذ المشاغبين؟
نظرت الي هؤلاء التلاميذ بعين الاستخفاف وما هي إلا أيام وتعود إلى أدراجها من حيث أتت، مضت الأيام ولم يلاحظوا خوفها من خوضِ هذه التجربة، تبدو ذات شخصية مُتمرسة واثقة من نفسها، تريثت لتفهم نفسياتهم العميقة وسلوكهم الذكوري، بعدها بدأت معهم برنامجها التعليمي.
بالرغم من أنوثتها الطاغية على شخصيتها إلا أنها تجمع بين الحزم واللين، اكتشفوا هؤلاء التلاميذ بداخلها جمال باذخ وجداول من الحنان، كان حتي الجدران ترخي أذنيها لتسمعها…
هي الأم التي لا ترفض لها طلباً!
هي الأخت التي تساندك في المحن!..
هي الصديقة التي تُقاسمك الأفراح والأحزان!..
تعلم هؤلاء التلاميذ من هذة المعلمة كيف يحترموا المرأة؟
ألجموا عنادهم وهبوا حبهم لها حتى إذا عاقبتهم!…
فتحت لهم نوافذ الجمال!…
غرسوا الشتول والزهور على أرجاء المدرسة!…
كونت لهم مكتبة ثقافية يتبادلون فيها الكتب!…
تحولت شخصية التلاميذ العدوانية إلى حب وحكمة!
تمنوا هؤلاء التلاميذ لو التقى معلمهم الطائر المهاجر، بالمعلمة سارة في زمن واحد، سوف يكونوا التلاميذ في أعلى مراتب من الجمال والأخلاق، عازفين أنشودة خالدة على مسرح الحياة، لكن تعلم هؤلاء التلاميذ أن مسار هذا الكون أن النوريين أبداً لا يلتقيان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطائر المهاجر: هو لقب للروائي/ محمد عبدالله عبدالله أبكر، أطلق هذا اللقب عندما تركت التدريس في المدارس بسبب السياسات القمعية، مما أصبحت مهاجر هارب من وطن إلي وطن أخر مثل الطائر المهاجر، ولذلك أطلق لي اسم الطائر المهاجر!
أرائكم عبر البريد الالكتروني: mohammed60702736@gmail.com